الصقيعُ!

مقال الدكتورة نعمة صالح عوض 

حينَ زرتُ بيتَنا في القريةِ مؤخراً وجدتُه صامتاً والقفلُ على شفتيه، مظلماً مغمضةً عيناه، مغلقةً أُذناه لا يسمعُ نحيبي... آهٍ وآه! جثوتُ على ركبتيَّ، اُُحدِّقُ بإحجارِهِ ومياظيرِهِ حتى كدتُ أعدَّها لولا عدمُ وضوحِ الرؤيةِ من هولِ غزارةِ الدموعِ وغيابِ الشمسِ،كنتُ وحدي دون استقبالٍ

بيت الدكتورة نعمة صالح عوض

وأنا من كانت تستقبلُني كلُّ القريةِ، نساؤها ورجالُها، شيوخُها وأطفالُها كان الصمتُ سيدَ الموقفِ إلا مِن نحيبٍ متزايدٍ دون أن يربتَ أحدٌ عل كتفي أو يمسحَ دمعي، لا صوتَ للعصافيرِ والدجاجِ والغنمِ،و

لا صوتَ للأطفالِ

كلُّ الأبوابِ والنوافذِ موصدةٌ، حتى أنه خُيّلَ إليَّ أن أخواني كلَّهم يغُطّون بالنومِ وأبي مُلْتَهٍ في ضيعتِهِ، وأمي منهمكةٌ في تحضيرِ الطعامِ...

آآآهٍ كدتُ أشمُّه !

استدرتُ لأرى بابَ ديمةِ أمي معلَّقاً دونَ طريقٍ فتنهّدتُ من هولِ الفاجعةِ من الخرابِ الذي أصابَ بيتَنا المهجورَ،

فقد سقطَ الدرَجُ الذي يربطُ ديمةَ أمي ببابِ الدارِ !

باب ديمة أم الدكتورة نعمة صالح عوض

تجولتُ في المكانِ فإذا قصورُنا مغلقةٌ، لكنها شامخةٌ ينتشرُ منها عبقُ التاريخ. تذكرتُ أجدادي وأعمامي وأمي وأبي وكدتُ أشمُّ بخورَ عمتي التي كانت تدفىءُ الكلَّ وتعطّرُ المكانَ... رحمةُ اللهِ على الغائبين.. الأحياءِ منهم والأمواتِ.

التبس عليًّ الأمرُ هل أبكي الأحياءَ أم الأمواتَ...تحوّلَ النحيبُ الى نُواحٍ دون حرجٍ فالجدرانُ لاتسمعُ ، بل بدأتُ أشعرُ بضجيجِ الصمتِ

من إستعادةِ شريطِ الذكرياتِ..

قرية الدكتورة نعمة صالح عوض

حينها أدركتُ أنّ رجليَّ جرّتني إلى المكانِ العزيزِ على نفسي حتى أُكحَّلَ عينيَّ برؤيتهِ، وأتنفسَ عبقَ الأحبةِ، وأقبّلَ الأرضَ الطاهرةَ التي مرَّ عليها الطيبون...!

قطفتُ وردصةً ..غادرتُ ..تركتُ هناك بعضاً مني !